فصل: ومن باب المجنون يسرق أو يصيب حدًا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب القطع في العارية إذا جحدت:

قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومخلد بن خالد المعنى قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فقطعت يدها.
قلت: مذهب عامة أهل العلم أن المستعير إذا جحد العارية لم يقطع لأن الله سبحانه إنما أوجب القطع على السارق وهذا خائن ليس بسارق.
وفي قوله: «لا قطع على الخائن» دليل على سقوط القطع عنه، وذهب إسحاق بن راهويه إلى إيجاب القطع عليه قولًا بظاهر الحديث.
وقال أحمد بن حنبل لا أعلم شيئًا يدفعه، يَعني حديث المخزومية.
قلت: وهذا الحديث مختصر وليس مستقصى لفظه وسياقه وإنما قطعت المخزومية لأنها سرقت وذلك بين في حديث عائشة رحمها الله الذي رواه أبو داود في باب قبل هذا.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها «أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم...». فذكر القصة.
قولها أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت يفصح بالسرقة ويصرح بذكرها ويثبت أنها سبب القطع لا جحد العارية وإنما ذكرت الاستعارة والجحد في هذه القصة تعريفًا لها بخاص صفتها إذ كانت كثيرة الاستعارة حتى عرفت بذلك كما عرفت بأنها مخزومية إلاّ أنها لما استمر بها هذا الصنع ترقت إلى السرقة وتجرأت حيث سرقت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعها.
وقد روى مسعود بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وبيان هذا الحديث في حديث عائشة رضي الله عنها من رواية الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها».
أفلا تراه يتمثل بالسرقة ويذكرها مرة بعد أخرى وفي ذلك بيان لما قلناه وإنما خلا بعض الروايات عن ذكر السرقة لأن القصد إنما كان في سياق هذا الحديث إلى إبطال الشفاعة في الحدود والتغليظ لمن رام تعطيلها ولم يقع العناية بذكر السرقة وبيان حكمها وما يجب على السارق من القطع إذ كان ذلك من القطع إذ كان ذلك من العلم المشهور المستفيض في الخاص والعام وقد أتى ما يجب على السارق من القطع إذ كان أتى الكتاب على بيانه فلم يضر ترك ذكره والسكوت عنه هاهنا والله أعلم.

.ومن باب المجنون يسرق أو يصيب حدًا:

قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنه قال أتي عمر رضي الله عنه بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسًا فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم فمر بها على علي كرم الله وجهه، فقال ما شأن هذه فقالوا مجنونة بني فلان زنت فأمر بها أن ترجم، فقال ارجعوا بها ثم أتاه فقال يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل قال بلى قال فما بال هذه ترجم قال لا شيء قال فأرسلها قال فأرسلها قال فجعل يكبر.
قلت: لم يأمر عمر رضي الله عنه برجم مجنونه مطبق عليها في الجنون ولا يجوز أن يخفى هذا ولا على أحد ممن بحضرته، ولكن هذه امرأة كانت تجن مرة وتفيق أخرى فرأى عمر رضي الله عنه أن لا يسقط عنها الحد لما يصيبها من الجنون إذ كان الزنا منها في حال الإفاقة، ورأى علي كرم الله وجهه أن الجنون شبهة يدرأ بها الحد عمن يبتلي به والحدود تدرأ بالشبهات لعلها قد أصابت ما أصابت وهي في بقية من بلائها فوافق اجتهاد عمر رضي الله عنه اجتهاده في ذلك فدرأ عنها الحد والله أعلم بالصواب.

.ومن باب الغلام يصيب الحد:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان حدثنا عبد الملك بن عمير حدثنا عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة وكانوا ينظرون فيمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم ينبت.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه».
قلت: اختلف أهل العلم في حد البلوغ الذي إذا بلغه الصبي أقيم عليه الحد، فقال الشافعي إذا احتلم الغلام أو بلغ خمس عشرة سنة فإن حكمه حكم البالغين في إقامة الحد عليه وكذلك الجارية إذا بلغت خمس عشرة سنة أو حاضت.
وأما الإنبات فإنه لا يكون حداّ للبلوغ وإنما يفصل به بين أهل الشرك فيقتل مقاتليهم ويترك غير مقاتليهم بالإنبات.
وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل في بلوغ الغلام خمس عشرة سنة مثل قول الشافعي. وقال أحمد وإسحاق الإنبات بلوغ يقام به الحد على من أنبت.
وحكي مثل ذلك عن مالك بن أنس في الإنبات فأما في السن فإنه قال إذا احتلم الغلام أو بلغ من السن ما لا يتجاوزه غلام إلاّ احتلم فحكمه حكم الرجال ولم يجعل الخمس عشرة سنة حدًا في ذلك.
وقال سفيان سمعنا أن الحلم أدناه أربع عشرة وأقصاه ثماني عشرة سنة فإذا جاءت الحدود أخذنا بأقصاها.
وذهب أبو حنيفة إلى أن حد البلوغ في استكمال ثماني عشرة سنة إلاّ أن يحتلم قبل ذلك، وفي الجارية استكمال سبع عشرة سنة إلاّ أن تحيض قبل ذلك.
قلت: يشبه أن يكون المعنى عند من فرق بين أهل الإسلام وبين أهل الكفر حين جعل الإنبات في الكفار بلوغًا ولم يعتبره في المسلمين هو أن أهل الكفر لا يوقف على بلوغهم من جهة السن ولا يمكن الرجوع إلى قولهم لأنهم متهمون في ذلك لدفع القتل عن أنفسهم، فأما المسلمون وأولادهم فقد يمكن الوقوف على مقادير أسنانهم لأن أسنانهم محفوظة وأوقات المواليد فيهم مؤرخة.

.ومن باب الرجل يسرق في الغزو أيقطع:

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة عن عياش بن عباس القتباني عن شنم بن تبيان ويزيد بن صبح الأصبحي عن جنادة بن أبي أمية قال كنا مع بسر بن أرطأة في البحر فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بُختية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته».
قلت: يشبه أن يكون هذا إنما سرق البختية في البر ورفعوه إليه في البحر فقال عند ذلك هذا القول.
وهذا الحديث إن ثبت فإنه يشبه أن يكون إنما أسقط عنه الحد لأنه لم يكن إمامًا وإنما كان أميرًا أو صاحب جيش وأمير الجيش لا يقيم الحدود في أرض الحرب على مذاهب بعض الفقهاء إلاّ أن يكون الإمام أو يكون أميرًا واسع المملكة كصاحب العراق والشام أو مصر ونحوها من البلدان، فإنه يقيم الحدود في عسكره وهو قول أبي حنيفة.
وقال الأوزاعي لا يقطع أمير العسكر حتى يقفل من الدرب فإذا قفل قطع وأما أكثر الفقهاء فإنهم لا يفرقون بين أرض الحرب وغيرها، ويرون إقامة الحدود على من ارتكبها كما يرون وجوب الفرائض والعبادات عليهم في دار الإسلام والحرب سواء.

.ومن باب الحجة في قطع النباش:

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد، عَن أبي عمران عن المشعث بن طريف عن عبد الله بن الصامت، عَن أبي ذر قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر قلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون فيه البيت بالوصيف، يَعني القبر، قلت الله ورسوله أعلم، قال أو ما خار الله لي ورسوله قال عليك بالصبر أو قال تصبر».
قلت: موضع استدلال أبي داود من الحديث أنه سمى القبر بيتًا والبيت حرز والسارق من الحرز مقطوع إذا بلغت سرقته مبلغ ما يقطع فيه اليد.
والوصيف العبد يريد أن الفضاء من الأرض يضيق عن القبور ويشتغل الناس بأنفسهم عن الحفر لموتاهم حتى تبلغ قيمة القبر قيمة العبد.
وقد اختلف الناس في قطع النباش فذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق إلى أنه يقطع إذا أخذ من القبر ما يكون فيه القطع؛ وبه قال أبو يوسف وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان.
وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري لا قطع عليه.

.ومن باب إذا سرق أربع مرار:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: «جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثانية، فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثالثة فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الرابعة فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه فأتي به الخامسة فقال اقتلوه، قال جابر فانطلقنا به فقتلناه ثم ألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة».
قلت: هذا في بعض إسناده مقال وقد عارض الحديث الصحيح الذي بإسناده وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس» والسارق ليس بواحد من الثلاثة فالوقوف عن دمه واجب. ولا أعلم أحدًا من الفقهاء يبيح دم السارق وإن تكررت منه السرقة مرة بعد أخرى إلاّ أنه قد يخرج على مذاهب بعض الفقهاء أن يبح دمه وهو أن يكون هذا من المفسدين في الأرض في أن للإمام أن يجتهد في تعزير المفسدين ويبلغ به ما رأى من العقوبة وإن زاد على مقدار الحد وجاوزه وإن رأى القتل قتل.
ويعزى هذا الرأي إلى مالك بن أنس وهذا الحديث إن كان له أصل فهو يؤيد هذا الرأي؛ وقد يدل على ذلك من نفس الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتله لما جيء به أول مرة ثم كذا في الثانية والثالثة والرابعة إلى أن قتل في الخامسة فقد يحتمل أن يكون هذا رجلًا مشهورًا بالفساد مخبورًا بالشر معلومًا من أمره أنه سيعود إلى سوء فعله ولا ينتهي عنه حتى ينتهي خبره ويحتمل أن يكون ما فعله إن صح الحديث فإنما فعله بوحي من الله سبحانه واطلاع منه على ما سيكون منه فيكون معنى الحديث خاصا فيه والله أعلم.
وقد اختلف الناس في السارق إذا سرق مرة فقطعت يده اليمنى ثم سرق مرة فقطعت رجله اليسرى.
فقال مالك والشافعي وإسحاق بن راهويه إن سرق الثالثة قطعت يده اليسرى، وإن سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى، وإن سرق بعد ذلك عزر وحبس وقد حكي مثال ذلك عن قتادة.
وقال الشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وأحمد بن حنبل إذا سرق قطعت يده اليمنى فإن سرق الثانية قطعت رجله اليسرى فإن سرق الثالثة لم يقطع واستودع السجن.
وقد روي مثل ذلك عن علي كرم الله وجهه.
قال أبو داود: حدثنا موسى حدثنا أبو عَوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش».
قلت: النش وزن عشرين درهما هكذا يفسر.
وفيه دليل على أن السرقة عيب في المماليك يردون بها ولذلك وقع الحط من ثمنه والنقص من قيمته وليس في هذا الحديث دلالة على سقوط القطع عن المماليك إذا سرقوا من غير ساداتهم.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم».
وقال عامة الفقهاء يقطع العبد إذا سرق، وإنما قصد بالحديث إلى أن العبد السارق لا يمسك ولا يصحب ولكن يباع ويستبدل به من ليس بسارق.
وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه أن العبد لا يقطع إذا سرق وحكي مثل ذلك عن شريح وسائر الناس على خلافه.

.ومن باب في الرجم:

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورميًا بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وسبي سنة».
قوله: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» إشارة إلى قوله سبحانه: {أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15] ثم فسر السبيل فقال: «الثيب بالثيب» يريد إذا زنى الثيب بالثيب وكذلك قوله: «البكر بالبكر» يريد إذا زنى البكر بالبكر.
واختلف العلماء في تنزيل هذا الكلام ووجه ترتيبه على الآية وهل هو ناسخ للآية أو مبين لها فذهب بعضهم إلى النسخ، وهذا على قول من يرى نسخ الكتاب بالسنة.
وقال آخرون بل هو مبين للحكم الموعود بيانه في الآية فكأنه قال عقوبتهن الحبس إلى أن يجعل الله لهن سبيلا فوقع الأمر بحبسهن إلى غاية فلما انتهت مدة الحبس وحان وقت مجيء السبيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني» تفسير السبيل وبيانه ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه، وإنما هو بيان أمر كان ذكر السبيل منطويًا عليه فأبان المبهم منه وفصل المجمل من لفظه فكان نسخ الكتاب بالكتاب لا بالسنة وهذا أصوب القولين والله أعلم.
وفي قوله: «جلد مائة ورميًا بالحجارة» حجة لقول من رأى الجمع بين الحد والرجم على الثيب المحصن إذا زنى.
وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد استعمل ذلك في بعض الزناة، وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإلى هذا ذهب الحسن البصري وبه قال إسحاق بن راهويه وهو قول داود وأهل الظاهر.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجم ولم يجلد، وإليه ذهب عامة الفقهاء ورأوا أن الجلد منسوخ بالرجم.
وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزًا ولم يجلده ورجم اليهوديين ولم يجلدهما، واحتج الشافعي في ذلك بحديث أبي هريرة في الرجل الذي استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابنه الذي زنى بامرأة الرجل، فقال له «على ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى المرأة الرجم واغد يا أنيس على المرأة فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فرجمها.
قال فهذا الحديث آخر الأمرين لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الإسلام ولم يعرض للجلد بذكر، وإنما هو الرجم فقط وكان فعله ناسخًا لقوله الأول.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن هشام بن سعد أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال، قال: «كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي فأصاب جارية من الحي فقال له أبي ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج فأتاه فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله فأعرض عنه، فعاد فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله حتى قالها أربع مرات، قال صلى الله عليه وسلم إنك قد قلتها أربع مرات فبمن، قال بفلانة، قال هل ضاجعتها، قال نعم، قال هل جامعتها قال نعم، قال فأمر به فأخرج إلى الحرة، فلما رجم فوجد مس الحجارة فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه».
قلت: اختلف أهل العلم في هذه الأقارير المكررة منه هل كانت شرطًا في صحة الأقارير بالزنا حتى لا يجب الحكم إلاّ بها، أم كانت زيادة في التبين والاستثبات لشبهة عرضت في أمره.
فقال قوم هي شرط في صحة الإقرار لا يجب الحكم عليه بتكريره أربع مرات، وإليه ذهب الحكم بن عيينة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واحتج من احتج منهم بقوله: «إنك قد قلتها أربع مرات»، إلاّ أنهم اختلفوا فيه إذا كان كله في مجلس واحد.
فقال أبو حنيفة وأصحابه إقراره أربع مرات في مجلس واحد بمنزلة إقراره مرة واحدة.
وقال ابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل إذا أقر أربع مرات في مجلس واحد رجم.
وقال مالك والشافعي وأبو ثور إذا أقر مرة واحدة رجم كما إذا أقر مرة واحدة بالقتل قتل وبالسرقة قطع.
وروي ذلك عن الحسن البصري وحماد بن أبي سليمان.
وذهب هؤلاء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده مرة بعد أخرى للشبهة التي داخلته في أمره ولذلك سأل هل به جنة أو خبل وقال لهم استنكهوه أي لعله شرب ما أذهب عقله وجعل يستفسره الزنا فقال لعلك قبلت لعلك لمست إلى أن أقر بصريح الزنا فزالت عند ذلك الشبهة فأمر برجمه وإنما لزم الحكم عنده بإقراره في الرابعة لأن الكشف إنما وقع به ولم يتعلق بما قبله.
واستدلوا في ذلك بقول الجهينية لعلك تريد أن ترددني كما رددت ماعزًا فعلم أن الترديد لم يكن شرطًا في الحكم وإنما كان من أجل الشبهة.
قالوا وأما قوله: «قد قلتها أربع مرات» فقد يحتمل أن يكون معناه أنك قلتها أربع مرات فتبينت عند إقرارك في الرابعة أنك صحيح العقل ليست بك آفة تمنع من قبول قولك فيكون معنى التكرار راجعًا إلى هذا.
في قوله: «هلا تركتموه» دليل على أن الرجل إذا أقر بالزنا رجع عنه دفع عنه الحد سواء وقع به الحد أو لم يقع. وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح والزهري وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأصحابه.
وكذلك قال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى وأبو ثور لا يقبل رجوعه ولا يدفع عنه الحد وكذلك قال أهل الظاهر.
وروي ذلك عن الحسن البصري وسعيد بن جبير، وروي معنى ذلك عن جابر بن عبد الله.
وتأولوا قوله: «هلا تركتموه» أي لينظر في أمره ويستثبت المعنى الذي هرب من أجله.
قالوا ولو كان القتل عنه ساقطًا لصار مقتولًا خطأ وكانت الدية على عواقلهم فلما لم تلزمهم ديته دل على أن قتله كان واجبًا.
قلت: وفي قوله: «هلا تركتموه» على معنى المذهب الأول دليل على أنه لا شيء على من رمى كافرًا فأسلم قبل أن يقع السهم، وكذلك المأذون له في قتل رجل قصاصًا فلما تنحى عنه عفا ولي الدم عنه.
وكذلك قال هؤلاء في شارب الخمر إذا قال كذبت فإنه يكف عنه.
وكذلك السارق إذا قال كذبت لم تقطع يده ولكن لا تسقط الغرامة عنه لأنها حق الآدمي.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن جابر بن سمرة وذكر قصة ماعز ورجمه، قال ثم خطب النبي صلى الله عليه وسلم: «إلاّ كلما سيرنا في سبيل الله خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة أما أن الله أن يمكني من أحدهم إلاّ نكلته».
معناه نكلته عليهن.
الكثبة القليل من اللبن، وقوله: «نكلته» معناه ردعته بالعقوبة، منه والنكول في اليمين وهو أن يرتدع فلا يحلف يقال نكل يُنكل ونكل ينكَل لغتان.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة في قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده أنه الآن لفي أنهار الجنة يتقمس فيها».
قوله: «يتقمس» معناه ينغمس ويغوص فيها؛ والقاموس معظم الماء ومنه قاموس البحر.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبك جنون قال لا قال أحصنت قال نعم فأمر به فرجم في المصلي فلما أذلقته الحجارة فر».
قوله: «أذلقته الحجارة» معناه أصابته بحدها فعقرته وذلق كل شيء حده يقال أذلقت السنان إذا أرهفته، والذلاقة في اللسان خفته وسرعة مروره على الكلام، ويقال لسان ذلق طلق، والإذلاق أيضًا سرعة الرمي فيكون معناه على هذا أنه لما تتابع عليه وقع الحجارة وتناولته من كل وجه فر.
وفي قوله: «أبك جنون» دليل على أنه قد ارتاب بأمره ولذلك كان ترديده إياه وترك الاقتصار به على إقراره الأول.
وفيه دليل على أن المحصن يرجم ولا يجلد.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى بن الحارث حدثنا أبي عن غيلان عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه «أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزًا».
قلت: وفيه دلالة على أنه قد ارتاب بأمره وفيه حجة لمن لم ير طلاق السكران طلاقًا وهو قول مالك بن أنس والمزني.
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زريع عن داود، عَن أبي نضرة، عَن أبي سعيد وذكر القصة قال: «فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت».
قوله: سكت يريد مات قال الشاعر عدي بن زيد:
ولقد شفى نفسي وأبرأ داءها ** أخذ الرجال بحلقه حتى سكت